[center]
الفصل الثاني: الآثار العامة لمدارس وطرق التصوف في المشرق
على نمو وظهور حركة التصوف في مصر
في القرنين الثامن والتاسع الهجريين
أولا : العوامل الدينية وأثرها على نشأة التصوف المصر
توطئة :
التصوف هو عبارة عن حركة اجتماعية روحية كبقية الحركات الاجتماعية في العالم انصبت في قالب عقلي فلسفي لتبرير التقاليد والقيم التي تنادي بها خلال العصور ، هذه الحركة الاجتماعية الروحية كانت قدمرت في مرحلتين متميزتين [1]هما :
1- مرحلة الزهد
2- مرحلة التصوف .
كانت الميزة الواضحة لمرحلة الزهد أنها تتضمن نزعات روحية ليس لها توجيه عقلي كامل أو تبرير منطقي فلسفي يعكس المرحلة الثانية التي نجد فيها نفس الأفكار الزهدية ناضجة ومتطورة ومبررة ومصبوبة في قالب ثقافي ذي نظم تربوية وسلوكية وفلسفية[2] وفضلا عن ذلك يمكن أن يقال أن الزهد طريق إلى نواة التصوف ومنطلقه والصورة المصغرة منه وأن التصوف الصورة الناضجة النامية لقيم الزهد والزهد يمكن أن يقسم فيما يتصل بموضعنا إلى شكلين هما :
1- الزهد الديني أو الاجتماعي
2- الزهد الصوفي .
إن الزهد الديني هو نزعة الانسحاب الاجتماعي الذي ينعكس من المتدين الذي يخشى الانغماس بأمور الدنيا[3] أو الانسان المتحفظ الانفرادي النافر من متعارفات وتقاليد الدنيا الاجتماعية والقيم السائدة ، أما الزهد الثاني وهو الزهد الصوفي فهو عبارة عن قيم وأفكار وتقاليد معينة جعلها منطلقا لنظام روحي قابل للتطور والزيادة سواء بطريق اجتماعي أم بطريق ثقافي أو حتى بطريق سياسي فإذا بلغ أوجه وقام على قواعد ثابته وتقاليد راسخة وفلسفة مبررة ونصوص معترف بها تغير اسمه من ذلك الاسم الساذج الزهد إلى الاسم المتطور المتعمق وهو التصوف[4] .
من هنا كثيرا ما يصادفنا في كتب التصوف عبارة تقول إن الصوفي ينبغي أن يكون زاهدا لكن الزاهد قد لا يكون صوفيا[5] ومعنى هذه العبارة أن الصوفي لن يصبح صوفيا إلا بعد اعتماد الزهد طريقا في حياته ومن هنا فالزهد الكثير على أسسه المتعارف عليها يصبح تصوفا[6] ، ومن هنا لا بد من عنصر الزهد في التصوف على عكس الزهد النفسي الذي يقف عند هذا الحد وقد يكون متوجها إلى الزهد الديني الذي يعني الاحتياط والحذر الشديد وقد يعني الزهد الاجتماعي الذي يتصل بعدم الانثناء للقيم المتعارف عليها والعادات والتقاليد الاجتماعية فيقف عند هذه المرحلة ولا يتجاوزها وهي مرحلة التصوف[7] .
وإذا عدنا إلى الزهد الاصطلاحي الذي هو نواة التصوف ومنطلقه ورجعنا إلى بدايته الإسلامية نجد النص القرآني عاملا قويا في تقويته وتطويره ،علما أن هذه الظاهرة كانت موجودة فعلا في عصر ما قبل الإسلام استمدادا من التقاليد الدينية آنذاك أولا ، وتأثرا بالرهبنة المسيحية ثانيا ، خصوصا في مصر حيث طالعتنا كلمة زهد في القرآن الكريم بصورة أسم فاعل الزاهدين في قوله تعالى فيما يتصل بيوسف عليه السلام : وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ[8] .
الزهد القرآني يعني القناعة بما وعد الله وقسم من ناحية والرضا بقضائه وقدره والثقة في رعايته عز وعلا ،فضلا عن ذلك نجد العناصر الزهدية في القرآن تتخذ أشكالا كثيرة تتمثل في الواجبات الشرعية والأوامر والتوجيهات الإخلاقية وغير ذلك مما ندرج عناصره فيما يلي :
1- الصيام : الذي هو فريضة إسلامية هدفها تهذيب النفس ،لكن عند المتصوفة تعذيب النفس بحرمانها لحرمان الجسم من الطعام والشراب كاملا طوال النهار ، وما يقترن به من واجبات أخلاقية ترتفع بالإنسان روحيا إلى المثل العليا[9] .
2- الصلاة : فريضة إسلامية تعني مواجهة الله وهو المثل الأعلى خمس مرات في اليوم وما يصاحبها من تطهر بدني ونفسي واخلاء للنفس الإنسانية للألتقاء بالله مبتعدة عن كل ما يربطها بالعالم المادي وهي معراج الروح المؤمن وقوله تعالى : فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً[10] وقد أولوها أهمية كبيرة وأولوا أوقاتها اهتماما أكثر[11].
3- الإلحاح على ذكر القيامة : أكد القرآن الكريم بآيات كثر على قرب الساعة ومن ذلك قوله تعالى : أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ النحل:1
وقوله تعالى :أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ النمل:64 ، فيوم القيامة موعود به ولا يعلمه إلا الله وكثير من الآيات تؤكد أقتراب هذا اليوم ،كما أكد القرآن على ضرورة الإيمان بالله واليوم الآخر والاعراض عن الدنيا والتوجه الروحي إلى الله الذي بيده أمر كل شيء وهو الأول والآخر .
4- عذاب الآخرة الحساب : ركز القرآن على وصف عذاب الآخرة في آيات كثر وكرر الصور المرعبة للجحيم الذي تنتظر العاصين وأثر ذلك في قلوب المسلمين وحفزهم على التوجه إلى القيم الزهدية تجنبا من الوقوع في هذه الألوان من العذاب الذي ينتظرهم خلال وقت قصير[12] .
5- وصف الجنة :وصفها الله بأنها أعدت للمتقين وبأوصافها المادية الكثيرة دعت المسلمين الأولين إلى الحرص للتوجه إلى المعاني الفاضلة ونبذ المعاني الدنيوية الزائلة[13] وقد نص القرآن الكريم على الخوف من العذاب والطمع في الثواب فقال تعالى : وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[14] واصفا صورة المؤمنين .
6- إعلان الفقر والغنى : أكد القرآن كثيرا على هذا المعني وساد معنى أن المؤمنين هم الفقراء وأن أعدائهم هم المترفون وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [15] .وقوله تعالى : وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً [16] .
وفضلا عن ذلك إن حياة المسلمين الأولين كانت نموذج تطبيقي لهذه النظرة الزهدية ونظرة في سيرهم هي شاهد إبراز هذا الجانب .
تطور انتقال الزهد إلى التصوف في مصر :
استغرق انتقال الزهد ونموه قرنا ونصفا من الزمان وبعد هذه الفترة تغير طابع الزهد من الوضع التطوري المتنامي إلى الوضع الناضج بحيث تغير معه المصطلح الذي اطلق على ممارسي الحياة الروحية المنظمة فصاروا يسمون الصوفية بعد أن كانوا يسمون بالزهاد والفرق بين الزهاد والمتصوفة في هذا المجال هو الطابع الجزئي الذي يتميز في الزهد والطابع الكلي الذي ينعكس في التصوف[17] .ثم استقرت التقاليد التربوية والمعرفة والانظمة بحيث طبقت على وجه متكامل لا في مصر فقط وإنما في سائر الامصار الإسلامية ويلاحظ في هذا المجال أن عملية غربلة وتنسيق حدثت في هذا الوقت حيث وجدنا شيوخ الزهد في مصر وسائر المراكز الإسلامية الأخرى يتوجهون إلى بغداد ليتشاوروا مع زهاد بغداد الذين صاروا يسمون بالصوفية ليتفقوا على منهج معين يلتزمون بتطبيقه في سائر الاقطار الإسلامية التي تعنى بهذا النوع من الفلسفة وهكذا تذكر الاخبار أن ذا النون المصري زار بغداد واجتمع بشيوخ التصوف بها وأن شيوخ الفتوة والملامتية فعلوا الشيء نفسه وأن صوفية بغداد شدوا الرحال إلى الشام ومصر لهذا السبب نفسه[18] .
ثانيا : اثر مدارس التصوف في المشرق الاسلامي على نشأة التصوف المصري .
ظهر التصوف في الإسلام على يد أفراد لهم سلوكية تعبدية بارزة في حياتهم ولم يكن أي تنظيم في هذا السلوك قبل القرن الثالث الهجري بل ظهر النظام في بواكير القرن الثالث الهجري في جماعات صوفية تجمعوا حول مشايخ في حلقات وعظ وذكر داخل المساجد والخانقوات وفي بيوت الشيوخ وأصبحت أماكن خاصة في مزاولة التعلم والتعليم لمباديء الصوفية وأصبح كل شيخ من شيوخ التصوف على رأس جماعات منتظمة تأخذ من الشرع الإسلامي منهجا لآدابها وتعاليمها بطرق معينة[19] .اصبحت لها مدارس حوت طوائف من التلاميذ المريدون يلتفون حول شيخ مرشد يؤدبهم ويسلكهم ويصبرهم على المعرفة والعلم[20] .
ومن ذلك وجدت صلة بين المدارس الصوفية في المشرق الإسلامي وطرائقها ونشأة التصوف الإسلامي في مصر خلافا لما ذهب إليه بعض المستشرقين الذين أكدوا أن التصوف الإسلامي أستمد أفكاره من ديانات متعددة غير الدين الإسلامي فذهب بعضهم إلى القول بأن التصوف اصله فارسي كما قال تولك Tholk وحجته أن بعض مؤسسي طرائق الصوفية كانوا من أصل فارسي أو أنهم ممن انتسبوا إلى بعض المدن الفارسية التي ولدوا فيها[21] .
وهناك رأي آخر يرجع التصوف الإسلامي إلى العقائد الهندية كما رجح ذلك جولد تسهير Jold Sheir حيث ذكر أن العقائد الهندية كانت قد أثرت في الأفكار الصوفية الإسلامية واكب بعضها ذلك التأثير قوة وعمقا وأنعكس هذا التأثير في فكرة الفناء حسب نظرية جولد تسهير ، أن نظرية الصوفيين في فناء الشخصية هي التي تقترب وحدها من فكرة الجوهر الذاتي الهندية إذا لم تكن تتفق معها تماما[22] .أما المستشرقان هرتنhorten وهارتمان hartman فكانا قد اسندا التصوف الإسلامي إلى المصدر الهندي ، ورد بعض نظريات التصوف الإسلامي في الرياضات العلمية وما شابهها إلى تصوف الهنود[23] . أما المستشرق مركس marx فقد أكد أن التصوف الإسلامي مأخوذ من الرهبانية ،أما بروكلمان[24] فقد أشار إلى أثر الكنيسة السريانية التي نقلت إليه أفكار من المذهب الإفلاطوني نقلا[25] .
وهناك آراء مناقضة لمستشرقين آخرين ومن هؤلاء المستشرق الإنكليزي ترمنجهام sepencer Trimingham إذ قال : أن التصوف الإسلامي تطور طبيعي داخل حدود الإسلام[26] والمستشرق الآخر نيكلسون : الذي قال : إن إطلاق الحكم على أن التصوف دخيل على الإسلام غير مقبول فإن الأفكار التي أختص بها متصوفة المسلمين نشأت في قلب الجماعة الإسلامية نفسها ، أبان عكوفهم على تلاوة القرآن الكريم والحديث الشريف[27] .وهذا الرأي يلتقي برأي المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون LOUIS MASSIGNION الذي أشار وأكد على أن التصوف قام على أساس التلاوة المستمرة والقراءة الشاملة للقرآن الكريم[28].
يمكننا بعد عرض هذه الآراء التي افترضها المستشرقون أن نقول أن صوفية الإسلام لم يكونوا من نتائج المؤثرات الاجنبية من فارسية ومسيحية ويونانية وهندية ،بل من مؤثرات داخلية إسلامية مشرقية لأن التصوف الإسلامي كان قد تعلق بشعور ووجدان ونفس إنسانية واحدة رغم اختلاف الشعوب والأجناس وما تصل إليه النفس البشرية بطريقة المجاهدات والرياضات الروحية والبدنية قد تصل إليه أخرى دون اتصال واحدة منهما بالآخرى وهذا يعني وحدة التجربة الصوفية[29] .ومن ذلك فإن الأسس التي قام عليها التصوف الإسلامي هي إسلامية مشرقية إعتمدت على مباديء الإسلام وقيمه ،لكن يمكننا أن نجد هذه الأسس والمباديء التي أعتمدها الصوفيون في تجاربهم ورياضاتهم الروحية لا تخلو من الغلو والمبالغة رغم أنهم كانوا قد استقوا من القرآن الكريم الذي هو المعين لمكونات تجاربهم ،على الرغم من عدم إشارته صراحة إلى أي اتحاد بين العبد وربه عز وعلا ولكن بعض مافيه من آيات كريمة كان الصوفية يرون فيها هذا المذهب[30] ، ومن تلك الآيات : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [31] وقوله تعالى : وهو معكم أينما كنتم [32] .
فالصوفيون في الإسلام كانوا قد اقتدوا برسول الله "ص" وبنوا طرقهم على أساس ذلك الاقتداء في أقواله التي جاء بها من عند الله تعالى وأفعاله الكريمة التي كان يريد بها وجه الله ورضاه وأحواله التي كانت ثمرة جليلة لكل ذلك[33] .وكان لهم في عزلة الرسول الكريم "ص" في غار حراء قبل الوحي مدخل في التصوف الإسلامي وانموذج عليهم الاقتداء به [34] .
وقد أكد الصوفية ارتباط علمهم بالكتاب والسنة وهذا ما قاله أبو القاسم الجنيد بن محمد البغدادي ،ت 297 هـ –910م : علمنا مضبوط بالكتاب والسنة ،من لم يحفظ الكتاب أو يكتب الحديث ولم يتفقه لا يقتدى به[35] .
فضلا عن ذلك هناك سلاسل صوفية تنسب إلى الرسول الكريم "ص" علما ونسبا إذ أن الرسول الكريم "ص" هو الذي وضع هذا العلم علمه الله بالوحي والالهام أياه ومن ثم جاء الصوفية وأخذوا أقواله"ص" وجعلوها طريقا ساروا عليه وتبدأ هذه السلسلة بالرسول الكريم "ص" وتنتهي بآخر شخصية وهي شيخ الصوفية الكبير الجنيد البغدادي[36] .نستنتج مما سبق من عرض آراء جمهرة من المستشرقين أنها آراء متناقضة عبرت عن رؤية وفلسفة كلام مقطوع قارب ربما بعضا، ومن ذلك لا يمكن أن نأخذ بها كاساس علمي لنشوء حركة التصوف الإسلامي التي ظهرت من لبان رحم أمة إسلامية لها أسس تكوين ومكونات ثقافية وواقع يميزها عن غيرها ساهم في أنشاء ونمو وظهور حركة التصوف الإسلامي في المشرق ،تطورت تلك الحركة بطريقتها وتياراتها حتى استطاعت تلك الحركة بتيارتها أن تسيح وتخرج إلى أنحاء المعمورة وتنتشر وتتطور طرقها في كل الأمصار الإسلامية بعد نموها وتطورها في بغداد ومن ثم بلاد الشام وصولا إلى مصر وبلاد المغرب العربي والأندلس[37] .
كان للمتصوفة في ذلك التطور رحلات وكرامات وحياة روحية ورياضات بدنية وطرق صوفية وسلوك ساهم في نشر قيم ومباديء واهداف الحركة الصوفية في أطراف مترامية من الدولة الإسلامية آنذاك ومنها مصر التي نمت فيها وترعرعت هذه الحركة .وهنا وجدت من الأفضل أن أقدم الأثر الذي تركته الطرق الصوفية التي كانت قد ظهرت ونمت وتطورت في المشرق في ظهور ونمو وتطور التصوف الإسلامي في مصر ، وقد ظهرت شخصيات صوفية تمثل الطبقة الأولى من طبقات الصوفية التي أسهمت في انتشار التصوف وتطوره في القرن الثالث الهجري /التاسع الميلادي ، ماجت الأمصار الإسلامية بالشيوخ وانتشرت الطرق وتدفقت الأفكار والمعتقدات نتيجة الانفتاح على الحضارات [38] .
ونتيجة لهذا تطور التصوف في الأمصار الإسلامية وكان تطوره عن طريقين :
1. اكتساب التعاليم التي كان لها وجود بالفعل قبل التصوف والتوسع والتدقيق في معانيها .
2. اكتساب تعاليم ورسوم جديدة [39] .وبذلك أصبح التصوف شيئا فشيئا مذهبا منظما ومدرسة يتخرج منها الأولياء لها قواعدها ورسومها من حيث سيرة المريدين الطلاب واخلاقهم وعباداتهم[40] .
مدرسة بغداد الصوفية : أقطابها ، طرقها :-
1- معروف الكرخي :
أول صوفي فيها كان معروف الكرخي :معروف بن الفيرزان الكرخي الذي مات شابا 200هـ/815م من تلاميذ داود الطائي ومن تلاميذ محمد السماك لعله الكوفي ، وتأثر بالجانب الزهدي عندهما ،زهد معروف على غرار زهد خراسان المفاجيء والسبب أن معروف لم يكن مسلما في الأصل بل دخل الإسلام من دين آخر ثم تبنى الزهد الصوفي وطوره فاسمه معروف يكنى أبا محفوظ وأبا الحسن ويلقب بالكرخي[41].
دخل معروف الإسلام من ديانة سابقة :اليهودية ،أو المسيحية ،أو الصابئة ، حيث تذكر المصادر التاريخية أن معروفا كان مسيحيا وإنه كان يقصد الكتاتيب المسيحية في صغره ، فكان المؤدب يأمره أن يقول الله ثالث ثلاثة فكان معروف يقول ذلك ويقول :احد ، أحد وانتهى الأمر بهرب معروف من الكتاب والبيت هربا من التقيد بعقيدة لا يجد بنفسه ميلا لها وعند بحث أهله عنه رضوا بابنهم ملتزما بالدين الذي يعجبه فلما جاءهم مسلما اسلموا معه [42].
أما بالنسبة للمجوسية فإنها تعتمد على اسم معروف الذي هو فيروزاد ،الفيروزان ، وهو أسم من اسماء المجوس من دون أن تقدم دليلا آخر على هذه المقولة [43]. أما بالنسبة للصابئة هذه الفكرة لا تقترن بدليل معين وأنما هو زعم من المزاعم سنوضح قيمته فيما بعد المسيحيون يقولون الأب والأبن وروح القدس إله واحد وإنهم لم يقولوا إلله ثالث ثلاثة ويقولون إله واحد فزعم هذه الرواية مخطوء ، وقوله أحد ،أحد ، هذه المقولة منسوبة إلى بلال الحبشي t حينما كان يعذبه المشركون ، أصحاب الرواية المسيحية فهموا من ذلك فهما اسلاميا فقالوا بفكرة احد ، احد رفعا لشأن معروف والابتعاد عن فكرة الثالوث المقدس[44] وتجريد الفكرة الإلهية من التعدد ،الفكرة ليست مسيحية بل تعبير إسلامي .
المجوسية : لا يوجد دليل كلامي أو فقهي على مجوسية معروف الكرخي :
1) الاسم يدل على ذلك .
2) المنطقة : بالنسبة إلى المجوسية عندما نجد كلمة كرخ نجد ستة كلمات بهذا الاسم وقسم منها في بلاد إيران .
الصابئة : أصحاب هذه الرواية دليلهم هو سكنى معروف الكرخي على النهر حيث أن الصابئة يفضلون السكن لأن أكثر شعائرهم تتعلق في النهر والماء ، والماء هو العنصر الأساس المتحكم في الصابئة . أما الأدلة التي تدل على انتقال معروف الكرخي من الصابئة إلى الإسلام فهي :
1- قضية الحياة على ضفاف الأنهار .
2- دليل نفسي يتمثل في نفور معروف الكرخي من الماء والضباب وكراماته على التحكم فيه وتطويعه كل كراماته في تحكمه في الماء .
3- حتى في أداء واجباته الشرعية لا يتورع في شرب الماء وخلال رمضان احتقارا له وتقليلا من شأنه وهذا يدعونا الى القول أن معروفا دخل الإسلام نتيجة ردود فعل نفسية على الصابئة الذين عظموا شأن الماء بحيث جعلوه عنصرا للطهارة والتصفية وكان معروف يراه عكس ذلك وإذا كان الصابئي ينتقل إلى الإسلام فأول ما ينبغي عليه فعله هو كفره بالماء والاستخفاف به وهذا ما حدث لمعروف الكرخي [45].
من أسماء معروف الكرخي هو معروف بن علي الكرخي وتسميته بهذا الاسم يدل على شيء يتصل بحياته ، ذلك لأن كتب الصوفية على العموم تقول أن معروفا أسلم على يد الإمام الرضاu ولي عهد المأمون وأنه كان بواب داره ومات على بابه حين داسته أقدام الزائرين للإمام[46] . أما من الناحية التاريخية لم يكن هناك أتصال بين معروف الكرخي والإمام الرضا "ع" حيث أن الإمام عين وليا للعهد سنة201هـ/816م ومعروف الكرخي مات سنة 201هـ/815م.ولم يكن هناك لقاء بين معروف الكرخي والمأمون والإمام الرضا "ع" [47] ، وهناك أسباب كثيرة تشير إلى ذلك ، والصوفيون يصرون بروايتهم على ربط الصوفية بالنبي"ص" عن طريق الإمام علي بن موسى الرضا "ع" ومن ناحية أخرى أن معروفا كان أول صوفي في الإسلام وهذه الفكرة تبين اجتماع أكثر من طابع صوفي واحد في معروف ويدل هذا على تطور الزهد إلى التصوف ، فمعروف أول صوفي تظهر فيه ظاهرة المزج للزهد وتظهر فيه فكرة واحدة هي التصوف ، معروف مات ولم يخلف كتابا مشار إليه ويذكر أنه مات ولم يتزوج [48].
آراء معروف الكرخي
نلاحظ أن معروفا يرد في كتب التاريخ باعتباره رجلا مجهولا لم يعرف إلا بعد موته ويذكر ذلك أبو حيان التوحيدي[49] في كتابه ،الهوامل والشوامل ، لأن ما صنع من معلومات عنه إنما كانت من تناقل الناس لا من شيء مادي مسجل وهنا تغلب على أخباره فكرة الكرامات وخوارق العادات لا الحقائق المفيدة القابلة للنقاش ومهما يكن من أمر فرأيه وقوله في تعريف التصوف : التصوف الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق [50] . هذه العبارة رغم بساطتها لكنها تتضمن بعدا فلسفيا وآخر صوفيا متطورا فالجانب الفلسفي يتمثل في تعبير هذه الجملة عن طبيعة المعرفة الفلسفية وتتمثل في تعريفه بالكندي للفلسفة بأنها علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الانسان[51] .
كان التصوف هنا كالفلسفة في الخوض عن حقائق الاشياء وعدم الاقتناع بظواهرها والشيء الثاني الذي تتضمنه هذه العبارة هو الزهد في المعرفة التقليدية التي تقوم على مناقلة الرواة وتوارث المتعلمين فلأول مرة يتجه الزهد الصوفي إلى العالم الروحي مباشرة دون واسطة[52] .والظاهرة الثانية في زهد معروف تتمثل بأخذه بفكرة الفتوة الخراسانية وقد عرفها معروف بأنها الايثار مع الاضطرار ولو بالطاعات يوم القيامة[53] .
هذا المعنى يصدر من احد أقطاب التصوف لأول مرة ذلك بنقل الإيثار الذي هو جوهر الفتوة من التضحية بالمصلحة لا في مجالها الدنيوي كالذي اعتدناه من فتيان خراسان الصوفيين بل تجاوزت هذه الفتوة إلى الزهد في طاعات الإنسان التي هي رأس ماله في الحياة الدنيا والآخرة[54] التطور على هذه الفكرة كان السر في مزج معروف الكرخي بين فكرة الفتوة وفكرة الحب الإلهي وقد وجدناهما متفرقتين إحداهما في البصرة والآخرى في خراسان[55] .وعبر معروف الكرخي عن معنى الحب الإلهي بقوله لمن سأله عن هذا الاتجاه الجديد في عدم الاهتمام بالطاعات فكان جوابه إذا أجبته فانساك جميع ذلك[56] .كان معروف يرى أن التصوف ينبغي أن يصدر من فكرة الحب الإلهي ليتم بذلك الفناء في العالم الروحي توكلا واندماجا دون قيد أو خوف أو طمع أو تردد كما يفعل الناس الاتقياء التقليديون وكان من الطبيعي والحالة هذه أن يرتبط العمل الصوفي بالتوكل المطلق على الله والانقياد التام باعتباره أفضل ما يطمع إليه الإنسان المجرد من الشوائب المادية من هنا ذكر معروف الكرخي يقول : إن اطعمني أكلت وإن أجاعني صبرت[57] .
وهذا التسلسل للأفكار الصوفية الجديدة أدى إلى ظهور فكرة اتجاه تبلور فيما بعد اصطلح عليه في النهاية اسم الأحوال الصوفية وكانت ثقة معروف الكرخي في الله وتوكله عليه ورضاه بما يكتب الله وصبره على وعده إلى غير ذلك هي السبب في ظهور فكرة البسط والقبض فالبسط يعني الإيجابية والتفاؤل والإندفاع نحو العالم الروحي بثقة وإطمئنان والقبض يعني القلق الشديد والتوجه نحو العالم الروحي في خوف ووجل وهيبة وكان معروف شيخ مدرسة البسط وكان زميله بشر الحافي شيخ مدرسة القبض وفي هذا السياق قال معروف : إن أخي بشرا قبضه الورع وأما أنا فنشلتني المعرفة الإلهية[58] .
وهكذا أنتهى معروف وليا في حياته ومماته بحيث دارت العبارة المشهورة حول قبره والتي تتداولها كتب التاريخ وتراجم التصوف قبر معروف الترياك المجرب [59] ، كل ذلك في رأينا يتصل في قلة المعلومات عن هذا الصوفي وحاجة المجتمع الإسلامي والبغدادي خاصة في ذلك الوقت وبعده إلى زعماء روحيين غير الخلفاء العباسيين وغير التابعين العلويين خصوم النظام العباسي وموضع اضطهاده ليتوجه إليهم الناس بحاجاتهم الروحية ليكونوا شفعاء بينهم وبين الله وهكذا بدأ التوجه إلى أهل بيت النبي محمد "ص" عن طريق رجل وصلوا به وصلا ، ومركز معروف في التصوف يتمثل أنه كان نهاية السلاسل الصوفية من رجال التصوف يبدأ بعده الأتصال بالمثل العليا للصوفية من الرجال السابقين عليه وهناك سلسلة صوفية علمية لا نسبية تنتهي بالرسول الكريم "ص" علما أن الصوفية أخذوا عن الرسول الكريم "ص" العلم الذي علمه أياه الله بالوحي والإلهام وجعلوها طريقا ساروا عليه ، وتبدأ بالرسول الكريم "ص" وتنتهي بعد تدرجها إلى آخر شخصية وهو شيخ الصوفية الجنيد البغدادي[60]
وإن سلم التصوف من الشخصيات الإسلامية العظيمة وهم :
الرسول الكريم "ص"
↓
الإمام علي بن أبي طالب "ع"
↓
الامام علي بن موسى الرضا "ع"
↓
وبعد هؤلاء تأتي الطبقة الثانية وهم
الحسن البصري[61] ت110هـ/727م
↓
أبو سليمان داود نصير الطائي[62] ت 166هـ /781م
↓
معروف الكرخي ،ت 200 هـ/815م
↓
أبو الحسن السري بن المفلس السقطي[63] ت 251 هـ/867م
↓
الجنيد البغدادي
2- الحارث بن أسد المحاسبي[64]
كنيته أبو عبد الله من علماء ومشايخ القوم بعلوم الظاهر وعلوم المعاملات والاشارات ، أستاذ أكثر البغداديين ،من أهل البصرة ، مات ببغداد سنة 243هـ/857م والمحاسبي من مدرسة بغداد الصوفية التي أثرت إيجابا في ظهور ونمو حركة التصوف الإسلامي في مصر والأقاليم الإسلامية الأخرى .
وله كتب مطبوعة كثيرة منها كتاب الوصايا وكتاب الرعاية لحقوق الله ورسالة المسترشدين ، والعقل وفهم القرآن بالطريقة الصوفية[65] .ويعد المحاسبي أحد مؤسسي مدرسة بغداد الصوفية القائمة على أقتران الثقافة بالعمل وميزة المحاسبي بن أسد أنه أختار طريقة التصوف بعد أختبار لسائر الإتجاهات الثقافية والدينية في أيامه ، فكأنه كان صورة مصغرة أو صورة سابقة للغزالي[66] حيث عانى أزمته الروحية وسجلها في كتابه المنقذ وكانت النتيجة أنه اختار طريق التصوف وقد وجد الحارث أن أصحاب الفرق الدينية والمذاهب الكلامية على الخصوص يكفر بعضهم بعضا ويقع أحدهم في الآخر ووجد هذه الظاهرة سارية في المدارس الفكرية عموما إلا التصوف الذي وجده المحاسبي أنه قد تجرد من المراء والخلاق واتجه نحو الحب والتوافق من كل حقد وبغض فضلا عن ذلك أنه تحرى الأديان المعاصرة له وحاول أن يستفيد من عناصرها بما يغني عقيدته الصوفية بالأفكار والتطبيق وهكذا وجدناه يقتبس من أقوال السيد المسيح ويضرب عليها أمثاله ويضمن كلامه قصة مشهورة نسبت للسيد المسيح تحت عنوان الباذر وهي خطبة شهيرة له تناقلتها الكتب المسيحية[67] كما التفت الحارث المحاسبي إلى الآيات القرآنية التي تعرض للرهبانية ومنها قوله تعالى : وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ فانفرد من بين المفسرين المتقدمين والمتأخرين بأن هذه الآية تتضمن مدحا للرهبانية لا قدح فيها كما أعتقد المفسرون[68] ، ودافع عن هذا في كتابه الشهير الرعاية لحقوق الله ،من ناحية أخرى استفاد الحارث من التراث اليوناني وأعجب بشخصية سقراط وخصوصا بمبدئه التحليلي واتخذ من فلسفته أعرف نفسك[69] منطلقا للتصفية الروحية التي أسسها الصوفية وأطلق عليها مصطلح المحاسبة وفي هذا المجال اشتهر المحاسبي ولقب بالمحاسبي ونسب إلى فكرته الرئيسية الأولى وطنه وعشيرته كما أعتاد المسلمون ، هنا ليس غريبا أن يؤلف المحاسبي كتابا في العقل وما يتصل به وإن كان مؤسسا للتصوف الذي يعتمد على الروح والتصفية[70] ومن هذا يمكن أن نستنتج :
1) المحاسبي من مؤسسي مدرسة بغداد الصوفية التي عدت منطلقا للتصوف الإسلامي لجميع الأمصار الإسلامية ومنها مصر وبلاد الشام .
2) اختار التصوف باعتباره مدرسة إيجابية بحته بعد طواف طويل في المذاهب العقلية الإسلامية ومن أقواله العلم يورث المخافة ، والزهد يورث الراحة ، والمعرفة
تورث الإنابة[71].
3) تأثر بالمسيحية لاقتراب طريقته ومبادئها من بعض مباديء الديانة المسيحية كالمخافة والمحاسبة .
4) تأثر بالفلسفة اليونانية ،في صورة سقراط ومذهب أعرف نفسك .
5) فلسفة المحاسبي الصوفية على أساس تحليل الذات الانسانية وتطهيرها من نواقصها الظاهرة والكاذبة وهذه الفكرة التي عممها تطوير لفكرة أبي هاشم الكوفي الذي كان يركز على أكتشاف دقائق الرياء .
6) منهج البحث العقلي يقوم على أساس الأستنباط في الأسئلة والإجابة عليها وكان هو وجنيد البغدادي يذهبان إلى الصحراء ويقول أحدهما للآخر أسئلني وهذا أيضا عنصر فلسفي سقراطي نجده عند المحاسبي[72].
7) أنه كان أول صوفي يعقد المجالس الثقافية التي تعتمد على المحاضرات في التحليل كما يفعل المتكلمون وكانت هذه المجالس تنعكس في جانبين :
إعلاء العقل عند المحاسبي وكتب رسالة يبين فيها دوره في الوصول إلى المعرفة عن الطريقة التي اتبعها الفلاسفة المعاصرون له استنتاجا من المناهج الفلسفية القديمة[73]. ومن تلك النصوص المتقدمة نستدل على أن المحاسبي كان ذا إلمام في موضوعات الزهد والمعارف المتنوعة والذي اسهم في تثبيت أركان مدرسة بغداد الصوفية التي أصبحت فيما بعد ذات أثر على ظهور ونمو وتطور التصوف الإسلامي في جميع الأمصار الاسلامية وملما بمذهب الصوفية النساك والعباد والزهاد والقراء في العراق والوافدين من العالم الإسلامي[74].
ومن أسس طريقته الاتجاه إلى العزلة التي تعني عند الصوفية الزهد والانقطاع إلى العبادة ونجد ذلك عند أغلب المتصوفة وعلى رأسهم المحاسبي الذي جعلها أساس طريقته التي أخذها بدوره تلميذه الجنيد البغدادي وجعلها طريقة سار عليها فيما بعد ونقلها السالكون والمريدون الذين تأثروا إلى ربطهم وزواياهم ليس في العراق[75] فحسب بل في عموم العالم الإسلامي وأمصاره في المشرق مصر كمحطة مقصودة بهذه الدراسة .
وعن ذلك قال الجنيد البغدادي : كنت أقول للمحاسبي : عزلتني أنسي وتخرجني إلى وحشة رؤية الناس والطرقات فيقول لي : كم أنس وعزلتي ؟ لو أن نصف الخلق تقربوا مني ما وجدت بهم أنسا ،ولو أن النصف الآخر ناء عني ما استوحشت لبعدهم[76] .
رؤية المحاسبي للعمل :-
اعتمد المحاسبي في رؤيته للعمل الذي أمر الله به على ما جاء في القرآن الكريم والسنة الشريفة ،مثل قوله : واعلم أن فريضة كتاب الله العمل بحكمه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والخوف والرجاء لوعده ووعيده والاعتبار بقصصه وأمثاله فإذا أتيت بذلك فقد خرجت من ظلمات الجهل إلى نور العلم[77] .،إذ قال سبحانه وتعالى : اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[78].
تلاميذه وأثره فيهم :
كان المحاسبي صوفيا متميزا بآثاره وسلوكه الزاهد وكان له تلاميذ يجتمعون معه عادة في مجالسه العامة المختلفة وكانوا يجلونه ويجلونه لعلمه واستقامة طريقته وقد أعجب الكثير بعلاقة المحاسبي وتلاميذه وبالتفافهم حوله وحبهم له ومنهم الامام احمد بن حنبل وعندما سئل كيف وجدت هؤلاء قال : ما سمعت في الحقائق مثل هذا الرجل المحاسبي ولم أر مثل أصحابه معه[79] ،وهذا دليل على ما كان يربط المحاسبي بتلاميذه من العلاقة الوطيدة والاجلال والاحترام في طريقته الصوفية ومن أبرز وأجل تلميذ له هو الجنيد البغدادي الذي كان له الأثر الكبير في نشر أفكاره والذي استند إلى طريقته وأسس طريقة صوفية لها الأثر الأكبر في تعميم مباديء الصوفية وكان للجنيد مع المحاسبي وقفات ومن هذه الوقفات الذي ذكرها الجنيد حين قال : كان المحاسبي يجئ إلى منزلنا ويقول أخرج معنا نصحر ، فأقول له تخرجني من عزلتي وأمني على نفسي إلى الطرقات والآفات ورؤية الشهوات ؟فيقول أخرج معي ولا خوف عليك فأخرج معه ، فكان الطريق فارغ من كل شيء ، لا نرى شيئا نكرهه فإذا حصلت في المكان الذي يجلس فيه قال :سلني ، فاقول ما عندي سؤال أسألك فيقول لي سلني عم يقع في نفسك فتنهال علي الأسئلة فيجيبني عنها لوقتها ثم يمضي لمنزله فيعمل من هذه الأسئلة كتبا [80].
هكذا نجد الفائدة الناتجة من العلاقة بتلاميذه ومن الأمثلة على ذلك تأليفه كتاب المسائل في الزهد وهذا الكتاب اجابات على أسئلة تلاميذه ولكنه تواضع منه واخفاء لأمر جعل من نفسه سائلا ومجردا أستاذا يجيبه[81].
وعن صفات التلميذ الذي ارادها أن تكون فقد ذكر المحاسبي ما يجب من صفات ليكون مؤهلا للعلم والعمل الذي نادى به وجعله أساسا لطريقته إذ قال سبع خلالها بكمل عمل المريد نور حكمته ، حضور العقل ،ونفاذ الفطنة ، وسعة العمل بغير غلط ،وقهر العقل للهوى والتثبت قبل القول والعمل ـ الحذر للآفات التي تشوب الطاعات[82] .
3- أبو القاسم الجنيد[83]
محمد أبو القاسم الخزاز وكان أبوه يبيع الزجاج فلذلك كان يقال له القواريري ، أصله من نهاوند ومولده ومنشؤه في بغداد ففيها تفقه على أبي ثور[84] . صحب السري السقطي ،والحارث المحاسبي ،ومحمد بن علي القصاب البغدادي[85] توفي سنة297هـ/909م[86] .
والجنيد فيلسوف حقيقي للتصوف الإسلامي،فارسي الأصل ،والجنيد في لقبه يبين لنا حقيقة من حقائق التصوف على العموم حيث لقبه القواريري وكذلك لقبه الخزاز ، الصوفية على العموم كانوا مجموعة من أصحاب الحرف ومن أصحاب المستوى العقلي والذكاء الاجتماعي وكانت لهم طاقة عقلية تنبع من حرفهم حيث نرى أكثر المفكرين هم من أصحاب الحرف ،المتكلمين ، الغلاة ، الصوفية ، نلاحظ أغلبهم من أصحاب الحرف . أتسمت طريقته في جميع الأمصار الإسلامية بدايتها نهاية طريقة الملوك[87] .
طريقة الجنيد البغدادي :
جنيد البغدادي أقام التصوف على قاعدتين هما :
1- أقامه على قاعدة عقلية .
2- أقامه على قاعدة عملية مع حرصه على روح الإسلام التطبيقية وهو الذي بدأ المنهج الذي تطلب من كل صوفي أن يكون فقيها وأن يمارس الفتوى في المجالس الفقهية بصورة فعلية وإلا لم يقبل في عالم التصوف وعند دراسة طريقته وجدناها تربط بين الشريعة والسلوك ونجد الجنيد آمن بالاقتداء بالنبوة ولا ينكر تمسكه بشريعة الرسول الكريم "ص" وأمضاء سنته[88] .وكان الجنيد قد طالب بممارسة الشريعة الإسلامية على فكرة دينية كان صاحب المنهج الذي استقر في التصوف فيما بعد ويتمثل في كسر النفس ومحاربة القيم الاجتماعية الموروثة من جاه ونسب ومال وما الى ذلك قبل الدخول في عالم التصوف الذي هو عالم روحي صرف يتناقض تماما مع التطلعات التقليدية في المجتمع .واوضح نموذج على هذا الاتجاه قصة دخول الشبلي[89] إلى عالم التصوف فقد أكرهه جنيد على خدمة زملائه الصوفية مدة وعلى الطواف مرة أخرى حتى أنتهى في خاتمة المطاف إلى احتقار كل القيم التي كان الناس يتنافسون على الوصول إليها وكانت طريقته من أكبر الطرائق التي ظهرت بسبب أثره وإيمانه بأن التصوف قوة عليا لا يرقى إليها إلا الصفوة أولو العزم والقوة وجاء يوما يطلب التلمذة وتلمس الطريقة ،فقال أذهب وأخدم الملوك ثم تعال إلينا ،فإن بداية طريقنا نهاية مقام الملوك[90].
وكان الجنيد ينظر إلى الحلاج مصداق لهذا المنهج الذي كان يتطلب التواضع المطلق حتى في مجال المعرفة ومن هنا رفض الجنيد قبول الحلاج لأنه كان مدعيا يمارس الكرامات التي كان جنيد يعتبرها مخاريط ونزوات ينبغي على الصوفي أن يترفع عنها ترفعا تاما [91].
وفوق هذا انطلق الجنيد إلى التصوف على الطريقة التي لقبها الحارث المحاسبي فقد طاف في اشكال الثقافات الإسلامية ودرس علم الكلام وعبره في رسائله عن فكرة الصفات الأزلية واستقى من الفلسفة اليونانية أشياء كثيرة وظهرت في أقواله فكرة عبارة كأس المحبة التي تتصل بالفكرة اليونانية القديمة عن الباكوسية نسبة إلى باكوس إله الخمر وتعني الخمرة الإلهية أو المعرفة الفيضية أو الذوقية[92].
أقواله في التصوف :
للجنيد أقوال في التصوف إذ قال : وما أخذنا التصوف من القيل والقال ولكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات لأن التصوف هو صفاء المعاملة مع الله وأصله التعزف عن الدنيا[93].وقد جمع الذهبي ما قاله الجنيد وعلمه بقوله : هذا حسن ومراده :قطع أكثر المألوفات وترك الدنيا وجوع بلا أفراط والسعادة في متابعة السنة فزن الأمور بالعدل وصم وافطر ونم وقم والزم الورع في القوت وإرض بما قسم الله واصمت إلا من خير فرحمة الله على الجنيد وأين مثل الجنيد وعلمه وحاله ؟[94].
فضلا عن ذلك فإن الجنيد عقد صلة بين التصوف وبين التوحيد والتوحيد هي النقطة النهائية التي يطمح إليها الصوفية والتصوف عند الجنيد يتألف من ثلاث عناصر :
1) الرياضة الروحية .
2) الثقافة الصوفية .
3) محاولة الوصول إلى الإنسانية المثالية لكي يصلح الصوفي في الدخول بالعالم الروحي فالتصوف عنده ثقافي[95].
وقد أكد أبن تيمية في السير على طريقته ومنهجه والدعوة إليها بقوله: فمن سلك مسلك الجنيد من أهل التصوف كان قد أهتدى ونجى وسعد وقال: الجنيد : أعلم إن أول عبادة الله معرفته وأصل معرفته توحيده المادي ،ونظام توحيده نفي الصفات عنه بالكيف والحيت والأين ، الاستدلال العقلي[96] فبه استدل عليه نذلك عن طريق الاحساس الداخلي بالوحدانية وقد استطاع الجنيد الاحساس بالتوحيد عن طريق المراحل والاسفار الأربعة التي أشرها الأستاذ كامل مصطفى الشيبي[97] :
أ- السفر من الحق إلى الحق .
ب- السفر من الحق في الحق .
ج- السفر من الحق إلى الخلق .
د- السفر للحق في الخلق .
اما المراحل فهي :
1- المرحلة الأولى نفي استعداد المتعلم بالتوجه إلى العالم الروحي وذلك بتثقيف نفسه تثقيفا ذاتيا يؤهله للوصول إلى هذه الغاية .
2- المرحلة الثانية فيها يندمج الإنسان في الحق أي في العالم الروحي ملتزما طابع التجريد بحيث يباعد بينه وبين العالم المادي ويخرق في العالم الروحي ،وغاب عن إحساسه بوجوده .
3- المرحلة الثالثة هي أن يتطبع بطبيعة العالم الروحي وفهم ما يجري فيه والقدرة على التعبير عنه بطريقة المندمجين في العالم الروحي وهو الفهم والتعبير القلبيان بدون ألفاظ ولو عبر عن هذه الألفاظ المعتادة ،وعند اجتياز المريد هذه المرحلة أيضا استطاع الوصول إلى المرحلة الرابعة [98].
4- المرحلة الرابعة : وهي التي توصف بأنها السفر بالحق في الخلق وهي تعني القدرة على التعبير عن المشاهدات الروحية بأسلوب البشر وألفاظهم واصطلاحاتهم بحيث لا تبدو هذه التعبيرات مخالفة لعقولهم ومنطقهم وأسلوبهم ،وهذا ما يميز المنهج الذي أتبعه جنيد باعتباره مؤسس مدرسة الصحو في بغداد عن زملائه أتباع مدرسة نيسابور الفنائيه عن الحسن ، وتبعه في ذلك جمهور من الصوفية في عصره وهو أن يسير طريق الصحو وهو ما خالف أبو يزيد بن طيفور بن عيسى البسطامي[99] ت 261هـ/874م الذي اتبع طريق السكرة الغيبوبة [100]
كان افلوطين يرى أن النفس تصعد إلى وطنها بعد خلاصها من الجسد فترى الله بقوة مشاهدتها وذلك باتباع التصفية وما إلى ذلك ، وبالضبط هدف الجنيد البغدادي الذي يتحقق عنده في المرحلة الثالثة ليعبر عنه في المرحلة الرابعة ، بهذا تبين العنصر الفلسفي الواضح في فلسفة الجنيد الصوفية التي صارت منطلقا في التصوف الإسلامي في مدرسة بغداد الثقافية وصار هذا التصوف مدرسة تحارب الأساليب الشاذة والأفكار غير المعتادة التي نادى بها أتباع مدرسة نيسابور الصوفية وما تفرع عنها من جماعات شاذة من الملامتية والقلندرية[101]
ولا بد أن نشير إلى تمسك الجنيد وأتباعه بفكرة ربط هذه الأفكار بالموروثات ومن هنا وجدنا أشتراط التفقه وصدود الجنيد عن أفكار المتكلمين في مسألة نفي الصفات وفيما يتصل بالإلتزام التام بالموروثات الشرعية يقول الجنيد بذلك : علمنا مضبوط بالكتاب والسنة ، من لم يحفظ الكتاب ولم يحفظ الحديث ولم يتفقه لا يقتدى به وهذا السبب في أن أبا عبد الرحمن السلمي روى لكل من ترجمهم من الصوفية في كتاب طبقات الصوفية مجموعة من الأحاديث النبوية الشريفة أشرت عنهم لئلا يظن بهم البعد عن روح الإسلام ومن ثم الوقوع في نطاق الزندقة والكفر ، وبالتالي الوقوع تحت طائلة العقاب فرديا وجماعيا ومن هذه النماذج التبرك الجماعي مثل الحلاج حيبن حوكم وثبتت أدانته ولم يدافع أحدهم عن هذا الصوفي إلا بعد قتله بأكثر من قرنين وذلك حين تصدى الشيخ عبد القادر الجيلي ففتح لمن جاء بعده من الفلاسفة والمتكلمين الصوفية والشعراء هذا الدفاع عن هذا الصوفي وقد أعتبر من شهداء العالم[102] .
[b]مدرسة نيسابور الصوفية :